(الصراع الجدلي بين الفلسفة والدين ) أولاد حارتنا نجيب محفوظ .
هذه هي الرواية الثانية التي اقرأها لنجيب محفوظ ، لطالما كان عبقري و ذو ثقافة وعالية واضطلاع واسع ، لمست أحرفه في التاريخ ،والفلسفة، والأدب و الخيال ،نجيب محفوظ كان ولا يزال الهرم الكبير الذي من خلاله استطعنا أن نتذوق لذة مصر و التجول في أحياء القاهرة و مرافقة شخصيات رواياته بعاداتهم وتقاليدهم وحتى أفكارهم ورغباتهم الشخصية .. ومن هُنا نستطيع القول بأنه أديبٌ كريم أنهل علينا من خير ثقافته.
أثارت رواية أولاد حارتنا الكثير من الجدل حول ماهية قصد الكاتب في معنى رمزياته ، فحُلَّلت الأحداث وفُكَّكت الرموز من قبل العديد من الأدباء والعلماء النابغين حتى أصبحت سيرة في كل مجلس ومضغة في فم كل ناقد ،و لكن أنا لست هنا لأكتب عنهم ولا لأضع تفسيراتٍ ليست بمحلها ،ستجدوا رأيي الشخصي البحت دون التعرض لأي شخص خارج نطاق الرواية .
تمضي الرواية عبر خمسة قصص متشابهة القصد ، مختلفة بالحدث .. يتمسك الكاتب في كل قصة بفكرة القضاء على الشر والفتنة بقوة الخير و العدالة ، في حين تظهر شخصية في كل قصة تتسم برمزيات تحمل دلالة تاريخية بأفكار فلسفية لإضفاء حالة من التساؤل المستمر حول المنهج المستقيم هل هو الدين؟ أم العلم؟ أم كليهما .. وهل يتفقان للشروع نحو عيش حياة متطورة وسليمة أم من الواجب علينا الاختيار بينهما ؟ ،كل ذلك وأكثر يحاول الكاتب باستمرار أن يصف لنا المجتمع المصري بكل ما يحمله من عواطف و أفكار ومسلّمات و عواقب .
البُعد الديني في الرواية :
ظهرت آثار ثقافة نجيب محفوظ الدينية بشكل بارز هذه المرة حيث وجدت الكثير من الاقتباسات الدينية التي توضح للقارئ مدى تأثره بالديانة الاسلامية والمذهب الصوفي ،ولكن الإشكال كان في عدم فهم الكتابة الروائية من الوهلة الأولى ستظن بأن الكاتب يتكلم على ألسنة شخوصه بالرواية ولكن فالحقيقة عمِّد الكاتب إلى إبعاد شخصه الذاتية عن الأحداث بقدر الإمكان ولكن في النهاية لا يستطيع الكاتب أن يخرج عن محيط أيدلوجيته لأنها جزء من مكنونات الأدب والرواية ، فاستطاعت أن تطفو بعض الأحداث التي استقاها الكاتب من التاريخ الإسلامي كقصص الأنبياء ، ولكنه لم يستقي ذلك التاريخ بأكمله إنما قام بإضافة بعضًا من صفاتهم إلى الشخصيات الرئيسة في الرواية وجعل سياق الحدث يتماشى مع الحدث التاريخي بطريقة لم تعجبني فيها تحريف جوهري للتاريخ الإسلامي ،حيث قام بتشكيل قصة تاريخية دينية اجتماعية وفق ما يبتغيه لإيصال رسالته ، فلم أحبذ هذا الأسلوب ، و أعتقد بأنها كانت نقطة تُحتسب ضده .
الابعاد الفلسفية :
متعة الرواية تجلّت بمجموعة رائعة من الافكار الفلسفية المختلفة التي تنُّم عن ثقافة نجيب محفوظ الفلسفية و إظهاره للمشاعر الإنسانية بإمتياز بدايةً من توظيفه اللغوي المبهر للشخصيات في الرواية من خلال التحدث عن قناعاتهم وفلسفاتهم بلغة قوية تتسم بدلالات وإيحاءات عديدة ومتنوعة ، حيث استخدم التشخيص المعنوي لجعل كل ماهو معنوي محسوسًا ومجّسدًا أمام القارئ ، وهناك الكثير من اللمسات والمفردات والرموز التي تحمل إيحاءات مختلفة تجعل القارئ في حالة من التأهب في كل مرة لاستقبال شخصية متميزة بفلسفتها عن الحياة .
الخيال والرمزية :
استخدم الكاتب كما أسلفت سابقًا الخيال وخلطه بالتاريخ وبترميز شخصياته بقصص الانبياء مما جعل الحكم على الرواية تأويليًا صرف ، يقوم القارئ بتفكيكها حسب ثقافته الأدبية والدينية ،ويجب الإشارة هنا إلى أن استخدام البعد الديني هنا لا يعني بالضرورة إشارة إلى الخير والفضيلة فحسب ولكن يمكن أن يدرك القارئ عوالم الشر بشكل بديهي من خلال الإشارات اللفظية ورموزها كلفظ الثعبان بوصفه رمزًا للنفاق ، و استخدم بالمقابل لفظ الصراحة كرمز للمروءة والصدق ،فنرى هنا الفكرة الفلسفية النابعة من المفردات ورمزيتها بالنقيضين الخير والشر و إظهارها للقارئ بصورة مشوقة .
في النهاية
أبدع نجيب محفوظ في الجمع بين اللغة الأدبية واللغة الفلسفية بالتعبير عن مكنونات الوجدان و طرح مسألة العقلنة والشك في رواية واحدة جعل منها لغة تتصف بالعديد من المظاهر الجمالية و الأفكار الفلسفية التي تصف الواقع و تطرح الكثير من القضايا الاجتماعية التي تؤرق عقولنا كالدين ، و الحرية ، والزواج ،والمسؤولية ،والمرأة …
من الجميل أن نجد رواية بهذا التنوع الفكري واللغة العصرية التي أثبتت عالميتها و خروجها عن محيطها من الخاص إلى العام ، ولكن من المؤلم أيضًا بأن يتركنا الكاتب مع أفكاره المتداخلة لنصنع تأويلنا الخاص بنا دون أن نعلم ماهية قصده بالكامل ، ولكنني كالعادة أنهل عطشي من ما هو مفيد و اترك عني ما لا يتوافق مع مبادئي وأفكاري الخاصة ،وكما أقول دائمًا للقارئ : الحياة تعّج بتناقضاتها فاقرأها أولًا ، و من ثم سيصبح بيدك الخيار .
تعليقات
إرسال تعليق