الموسوعة الفكرية (الإسلام بين الشرق والغرب)






 قبل مدة قصيرة أنهيت قراءتي الاولى لكتاب الاسلام بين الشرق والغرب للمفكر العظيم علي عزت بيغوفيتش ،هذا المفكر الذي أنقذنا من الكثير من الاوهام الغربية ،المفكر الذي كان يسعى لإظهار الحق ويتمنى أن يكون الإنسان بمعناه الحقيقي من الإنسانية لا أن يدلو عليه جلباب العدمية والمادية ويتجرّد من فطرته الحّقة! ،إنه علي عزت بيغوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب الشنيعة. 

أين يقع الاسلام ؟

كان القصد من كتابة هذا الكتاب اكتشاف موقع الاسلام في إطار الفكر العالمي ،والنظر إليه من منظور فكري أكثر من كونه ديني ،وفي ذات الوقت نجد بأن الكاتب يحاول أن يجمع ما بين حرية الانسان ومسؤوليته تارة وبين الخلق الإلهي تارة أخرى ،هُنا يناقش عن مدى ارتباط حرية الانسان ومسؤوليته عن كل ما يفعله بوجود الله سبحانه وتعالى ولا تكمن الحرية إلا حيث يكمن الإسلام.


الهروب من الإنسانية إلى داروين ٠٠

يقول علي عزت "لا تتحقق معنى حياة الإنسان إلا بإنكار الحيوان الذي بداخله .فإذا كان الإنسان هو ابن الطبيعة كما يقولون ،فكيف تسنى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة.."يناقش الكاتب في مقدمات الكتاب قضايا عدة تخص قضية أصل الانسان وتثبت لنا المنابع الحقيقية للإلحاد والمادية والقضايا الأخرى المتعلقة بها مثل :الثقافة والحضارة ،ظاهرة الفن ،الاخلاق ،الدراما والطوبيا  

الحضارة جزء من الثقافة وليس العكس..

لطالما كانت الثقافة هي منبع الإيمان وجوهره بعكس الحضارة التي كانت دائمًا ما تهتم بحيونة الإنسان وإشباع احتياجاته الأساسية بشكلٍ منظم واجتماعي ، ويمكننا أن نقيس على ذلك كل من العلم ومدى تأثيره على الانسانية والثقافة وبين الدين وتأثيره على التقدم والتطور ،وهُنا يبحر علي عزت في القسم الأول من كتابه ويؤكد بأن الحياة الانسانية قائمة على الازدواجية الشاملة المتمثلة في التناقضات التي تتصارع بين الروح والجسد وبين الدين والعلم وبين الثقافة والحضارة . ويتوغل في أصول هذه القضايا ليخرج لنا بنتاج عظيم من بحث متكامل يوفر للقارئ مساحة كبيرة ومتشعبة للنقاش في عدة أمور تتعلق خصوصًا بالتناقضات التي لا تكاد تخلو من إنسي يعيش في مجتمع يناقض نفسه .

هل هناك وسيلة ما يمكن بواسطتها للعلم أن يخدم الدين والصحة والتقدم والإنسانية ؟

يجيب علي عزت على هذا السؤال في القسم الثاني من كتابه (الإسلام :الوحدة ثنائية القطب ) فالإسلام وُجد قبل خلق الإنسان لينظم الكون ويهيأه ، والإسلام لم يوجد ليكون دين فقط أو مجرد طريقة حياة لقد جمع الإسلام بين تلك التناقضات المتصارعة بين الانسان وخارجه وأيّد الازدواجية التي تتطلبها الحياة الانسانية وبعد أن يخضع الجسد لحركة الروح ويتسم النظام الاجتماعي بوحدة الاسلام يحدث الانسجام الفطري بين كل من الانسان والإسلام وتطابقهما،يبدأ هذا القسم بمقارنة رسالات موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وينتج عن هذه المقارنة ثلاثة إجابات مبدئية لمواجهة الجنس البشري للتاريخ ومن خلالها عرف الانسان معنى الحياة وما يناقضها في الجانب الآخر فجاء الاسلام عامة والقرآن خاصة ليجمع بين واقعية العهد القديم ومثالية العهد الجديد .

ماذا يفعل الإنسان في مواجهة الاضطرارية ؟

ما الذي باستطاعتنا أن نفعله بعد معرفتنا بأن الحياة قد تدفعنا يومًا ما إلى طريق الشر، أو عندما نشهد في كل يوم مأساة جديدة ،ما الذي سنفعله إذا كنا من بعد كل تطور وتقدم وازدهار نرى هناك في نفس الوقت أطفالٌ يموتون بأشنع الطرق وأبشعها ، نعم لطالما كان الإنسان قادرًا على تخفيف هذا الكم من المعاناة على ساحة الأرض ،ولكن لن يستطيع أن يمنع كل من الظلم والألم في الاستمرار ….


يجيبنا علي عزت على كل هذه التساؤلات في الصفحات الأخيرة من كتابه بإجابتين مختلفتين فالأولى كانت بالتمرد ،والتحريف والعدمية والتجرد من النفس الانسانية هبوطًا إلى أدنى درجات الدناءة والجحود ،وكانت الاجابة الثانية بدورها تعكس الأولى بالتسليم إلى الله والاعتراف بالقدر خيره وشر ،والرضا بالحياة على ما هي عليه ومحاولة التحمل والصمود والتحلّي بالصبر وإلا فلن يكون لكل ما نفعله معنى حقيقي من وجودنا ولولا هذا الكفاح وهذا الصراع المستمر لم نكن لنُخلق ،إن الإسلام كما يقول علي عزت  (لم يأخذ اسمه من قوانينه ،ولا نظامه ،ولا محرماته ،ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الانسان بها و إنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه : من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني من قوة النفس في مواجهة محن الزمان… من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث.. من حقيقة التسليم لله . إنه استسلام لله ..والاسم:إسلام)

وأخيرًا الكتاب أكبر من أنصح بقراءته فقط ولن أستطيع أن أحصر هذه الموسوعة الفكرية الباذخة في بضعة أسطر ،كل ما يمكنني قوله هو أن تسمحوا لعقولكم بالبحث عن الحقيقة المنطقية والأخذ بها وأن تسمحوا لأرواحكم بالتنقل من صفحة إلى أخرى بالحرية التي فطرنا عليها ،وأن تقرأو وتقرأو حتى تجدوا إنسانيتكم المفقودة.




تعليقات

المشاركات الشائعة