(ما بين قسوة الماضي و توهان الحاضر) ذاكرة ليوم واحد يحيى أحمد
هذه هي قراءتي الأولى للكاتب الصاعد يحيى أحمد ، كنت قد رأيت عدة منشورات. لهذه الرواية التي اشتهرت بين القراء باسم الرواية البنفسجية ،ولا سيما أني كنت أتابع بشكل شبه دائم حساب الكاتب يحيى على منصة اكس فقد كان قارئ نهم ومطلع على شتى المجالات،وعندما يكون الكاتب قارئ ، و منتقي لأجود العناوين التي تساعد الكاتب على فهم كينونة و عقل القارئ؛ سيكون لديه ما يكفي من المخزون والحصيلة اللغوية والبلاغية لينتج لنا كتاب خالد يعيش في ذاكرتنا أمدًا طويلًا و في كل مرة تحضرنا ذكرياته كما قرأناه أول مرة،ولطالما شددت على أهمية أن القراءة الأدبية خاصةً بمقدورها أن تبرز لنا سمة الكتابة بأفضل شكل و أبدع وجه .
الماضي
أيُّهما مخيف أكثر؟ أن يصبح للإنسان ماضٍ يخيفه كلما تذكر أحداثه ، أم ماضٍ يجهله تمامًا؟
تجلَّت فكرة بديعة في هذه الرواية لتجعل من الماضي جزءًا بالغ الأهمية في حياة الفرد،حينما يكون الماضي مسؤولًا عن تبعات الحاضر و نتائج المستقبل ، لن تكون لك حيلة في أي من أمور حياتك و لن يكون لك خيار سوى أن تؤمن بدائرة علاقاتك القريبة منك لتتعرف من خلالهم على ماضيك المجهول و حاضرك الغير مستقر،و مستقبلك الضبابي ،لطالما كان الماضي هو ما يحركنا نحو المضي قدمًا ومجابهة تحديات الواقع، وعندما نجهله نكون قد فقدنا بوصلة حياتنا تمامًا و ما إن نفقد معرفتنا حول أنفسنا فإن سلسلة الفقد تتوالى علينا حتى يتملكنا الخوف من الجهل وحيرة العقل التي تقودنا بدورها إلى الجنون .
أبدع الكاتب بإبراز الزمن الماضي من خلال حدث رئيسي واحد و تفرّع من خلاله إلى عدة مواضيع أخرى ترتبط بالماضي مثل العادات اليومية ، العمل ،المبادئ ، العلاقات الاجتماعية، العائلة ،الزواج وغيرها ، فكل هذه تتغير بشكل كبير مع مرور الزمن ولكنها تعتمد اعتماد أساسي على بذرة تكوينها في الماضي ،لذلك تسير بنا الرواية في خط متقطع ففي كل مرة ينام بطل الرواية تنام معه أحداث الماضي و تنُسى كأن لم تكن .
الحاضر
لا أريد أن يضيع عمري من دون أن أشعر، فعمري يمضي سريعًا و ليس بيدي شيء أفعله
ما هو الحاضر؟ وكم يحتاج من الوقت حتى يصبح في طيات الماضي؟ هي ساعات نعيشها على أمل أن نستيقظ في المستقبل دون أن ننساها ،هي تلك المحاولات التي خضناها لأجل أن نبني مستقبل يليق بذاكرتنا طويلة الأمد ، و هُنا أيضًا يبرز الكاتب معاناة النفس البشرية وخوفها الغير منقطع من فوات وقت الحاضر و مداهمة المستقبل المجهول لحياتنا ..
كم مرة تمنينا أن لا ينتهي الحاضر ، وكم مرة حاولنا الهروب من إغماضة العين و مغالبة النوم وتتردد على لساننا عبارة شديدة الأسى (ليتنا نملك من الحاضر ما يكفي لمجابهة المستقبل ) ، فالحاضر في هذه الرواية هو مقدار الساعات التي يكون البطل مستيقظًا فيها فقط و ما أن ينام ينتهي الحاضر و لا يتذكر سواه ، وعندنا نقيس هذه الفكرة على واقعنا نجد بأننا نفعل نفس الشيء في كل يوم و لكننا لا ندرك في أحيان كثيرة بأن العمر يمضي سريعًا فهناك أيام كثيرة كانت حاضرة والآن لا نتذكرها ولا نشعر بها لأننا لم نعطها حقها من الإنجاز أو ربما من المشاعر أو ربما هي التي لم تعطنا حقنا من الوقت !
يقول بطل الرواية "إذا توقفنا عن احتساب الأرقام ، و أصبحنا جميعًا نعيش حياتنا بما نعتقد أنه يليق بها و بما نريد . لا بما يليق بعمرنا ، فلن نسمع من أحد الجمل المعتادة :لم تعد صغيرًا على فعل هذا .."
فمنذ قرأت هذه الأسطر آمنت بأن ليس الوقت هو كل ما نملك ولا نستطيع أن نمدد الحاضر ونمنع أنفسنا من لذة الشعور بنتائج المستقبل ، إننا في كل يوم نستيقظ فيه ينتظرنا حاضر جديد ونحن من نملك الخيار لجعله ذكرى عبقة و نتيجة وافية
المستقبل
"هل يمكن فعلًا أن أتغير على نفسي إذا انقطعت عنها لفترة طويلة إلى هذا الحد ، فأصبح بعدها لا أعرفني ،ألمح نفسي في المرآة فلا أراني،أرى شخصًا مألوف الملامح،لا أتدارك نفسي إلا حين ابدأ بالتحدث فتبدأ تلك الصورة بترديد ما أقوله فأدرك أن الشخص الواقف أمامي هو أنا !"
نحن بطبيعتنا ننتظر الغد أكثر من أن نعيش اليوم لأن الغد مجهول والإنسان بفطرته ينتابه الفضول حول كل ما هو مجهول و لكننا بطبيعة الحال لا ندرك بأننا أثناء هذا الانتظار الحافل بالفراغ نفقد أنفسنا، و مبادئنا ،عاداتنا و كل ما يشكّل هويتنا ..لأننا لم ننجز في الحاضر أو ربما ظننا بأن المستقبل سياتي متكفلًا بكل ما نحتاج لأننا دفعنا ثمن وقتنا ووهبنا له عمرنا و أفنينا عليه حياته و ببساطة شديدة انتظرناه دون أن نفعل شيء سوى الانتظار .
سرد لنا الكاتب الكثير من العبرات التي نستنتجها عندما نصل إلى المستقبل تارة برضا وقناعة وتارة أخرى بغضب وعجز ، هي معادلة بسيطة تدور حولها الرواية ولكنها عميقة جدًا قد لا يدركها الكثيرون و هي : لا يمكننا أن نتحكم بالماضي ولا المستقبل إلا من خلال الحاضر .
تنتهي رحلتنا مع الرواية عندما ينتهي الوقت ونغمض أعيننا للمرة الأخيرة
أنصح بقراءتها للذين ما زالو يملكون الوقت و لم يناموا .
تعليقات
إرسال تعليق