فلسفة الثنائيات (الخفة والثقل ،الروح والجسد) كائن لا تحتمل خفته ميلان كونديرا


 ها أنا أغرق في فكر وفلسفة كونديرا المثير للعجب للمرة الثانية بعد قراءتي لروايته التي أحدثت ضجة بداخلي (الخلود)

كنت قد آمنت بأن كل رواية يكتبها كونديرا هي عبارة عن كمية هائلة من التساؤلات الفلسفية والاجتماعية والنفسية وكذلك السياسية و في نهاية الأمر يترك لنا الخيار في البحث عن الإجابة ، وفي تلك اللحظة أدركت بأنني وقعت في فخ الخفة والثقل ..

 

 

تدور أحداث الرواية في عام ١٩٨٦م خلال الغزو السوفييتي لبراغ المدينة التي تحاك فيها الرواية ، حول أربعة شخصيات رئيسة هم توماس وتيريزا وفرانز وسابينا  ،يشكلون الرواية من عدة نواحي مختلفة بحيث يبين الكاتب حقيقة ومعنى كلًا من الخفة والثقل والروح والجسد بالنسبة لكل واحد منهم ، وتصحب أحداث الرواية مشاعر و رغبات عديدة مثل :الرغبة في الخيانات المستمرة ،الالتزام بمسؤولية الحب ،والتحرر من الشعور بالعبء

 

وهناك في الجانب الآخر من الرواية تشتد آثار الاحتلال والشيوعية والمسؤولية الوطنية والسياسية ،حيث تنقلب حياة توماس رأسًا على عقب بسبب المقال الذي كتبه ليعبر فيه عن الوضع الحالي الذي يعيشه مواطني براغ مستشهدًا بحكاية أوديب الذي لم يستطع تحمّل مشهد الشقاء الذي سببه الجهل بعدما عرف حقيقة فعلته ففقأ عينيه وغادر مدينته أعمى  ،ومن ثم اتضحت مطالب الحزب الشيوعي بالتوافق مع السوفييت من خلال حذف المقال السياسي الذي تم نشره في الصحف 

 

استطاع الكاتب أن يصف لنا البيئة التي تعبر عن تغلغل ونمو الفساد فيها عبر تكنيكات المقاومة التي في كثير من الأحيان قد تخدم المحتَّل مثل تصوير تيريزا للدبابات السوفيتية فكانوا يتعرفون من خلال هذه الصور على وجوه المقاومين . 

 

 

v    التحليل الأسلوبي للرواية : استخدم ميلان كونديرا في روايته أسلوب الثنائيات في تعبيره عن الخفة والثقل ،بحيث يمزج كلًا من الفلسفة والخيال بشكل عجيب وتنّقل رهيب بين الشخصيات رغم اختلافها في البعد الزمني إلا أنها مرتبطة ببعضها البعض بشكل منطقي وذلك ما يعطي القارئ شعورًا بالفضول ومعرفة ما الذي ستؤول إليه الأمور في النهاية 

ومما امتاز به الكاتب أيضًا هو استخدامه لضمير الراوي لكي يُضفي تأملاته الفلسفية الخاصة ووجهات نظره وطرحه للأفكار والتحليلات دون أن يكون جزءًا منها مستعينًا بأفكار الفيلسوف نيتشه والفيلسوف اليوناني الآخر بارمينيديس ،وهكذا استمرت تسلسلية الاحداث وصولًا إلى الحبكة بتقديم جميل جدًا من خلال عدة متناقضات بدايةً بقصة الحب ومرورًا بالسياسة ووصولًا إلى تلك التاملات الوجودية التي ترتبط ارتباطًا غير ظاهري من الوهلة الأولى ،وطوال رحلتنا نكتشف إصرار الكاتب في لفت انتباه القارئ إلى ذلك الصراع المستمر داخل الحياة .

 

 

v    الاستعارات والتشبيهات الفنية للرواية: قدّم الكاتب العديد من الاستعارات ،وأبدع في تحريك المخيلة الجمالية بالاستخدامات الفنية لدى القارئ وأجاد تفعيل الرموز في حياة الشخصيات السياسية والنفسية مثل استعارة (ابن الإله والملاك الساقط) للتعبير عن ابن ستالين الذي كان بمكانة الإله عند السوفييت ،فوقع ابنه في الأسر وتلقى الإهانة حتى الموت ،كما أنه استخدم الاستعارة الأسطورية المتمثلة في قصة موسى الذي أخرجته امرأة فرعون من السلة في النهر للتعبير عن كيفية ظهور تيريزا في حياة توماس التي يراها طفلة مهملة بحاجة إلى العون .. وهناك الكثير والكثير من الاستعارات الآسرة التي تزخر بها الرواية ويتعجب منها القارئ وتدل على عبقرية الكاتب في الربط بين التاريخ والمستقبل ، و إسدال الحضارات والأساطير على هيئة استعارات تدعم شخصيات الرواية وتغوص أكثر في النفس البشرية .

 

 

v    الحوار والسرد في الرواية : اتخذ ميلان كونديرا أسلوب الرواي الذي يقاطع القارئ ويلفت الانتباه إليه ،وتدور حوارات الشخصيات الأربعة حول عدة عوامل مختلفة  تتقيّد بالخفة والثقل ، كما أنها تختلف في الالتزام و والرفض للمسار السياسي داخل الدولة ، و مما يميز الحوارات هي تلك النظرة الفلسفية والتساؤلات حول الموت ،من خلال سرد يمتاز بأفكاره أكثر من تسلسله الزمني حتى حينما تقرأ الرواية تشعر بأنك تستمع لأكثر من مادة مختلفة وجميعها تستطيع أن تنتشلك من نفسك لتبدأ بالتساؤل عن حقيقة خفة الشعور أو ثقله ،وعن قتامة الروح بداخل الجسد ،يأخذنا الكاتب إلى تلك الفلسفة العميقة والترابط العجيب بين الروح والجسد باستخدام حوار واحد بين تيريزا ونفسها حينما تتمعن في جسدها أمام المرآة اعتقادّا منها بأن روحها ستظهر من خلال جسدها ،أو عندما تظهر سابينا أمام فرانز فجأة لتعطيه مكنسة هرقل ليكنس بها شعوره بالثقل ويمضي في مسيرة كبرى يحتج  فيها عن كل آلامه السابقة ويُحلّق عاليّا نحو الموت والخفة ! 

 

 

v    رأيي وانتقاداتي حول الرواية : أعجبتني جدًا تلك التدخلات المفاجئة للرواية من الراوي في منتصف الاحداث لم أكن أجدها متطفلة بل على العكس تمامًا كانت وكأنها هوامش تزيد القصة لمعانًا ،لأني من خلالها استطعت أن أفهم جزء كبير من أفكار كونديرا التي كانت تُثريني معرفيًا حول طريقة كتابته وأسلوبه في الكتابة ، كما أعجبني الفصل الأخير من الرواية الذي كان يصف وبدقة معاناة وفاة كارنينا وهي كلبة تيريزا التي عاشت معها ما يقارب العشر سنوات من حياتها ،ومما أثار حنقي للأسف الإفراط في المشاهد الجنسية بشكل لا يخدم أحداث الرواية بصورة كبيرة ولا يضفي الكثير من الأفكار عليها ،ولكن كما أقول دائمًا خذ ما يفيدك واترك ما لا يدعم مبادئك واعتقاداتك ،أنصح بالرواية للقُراء الذين يبحثون عن اجتماع الأضداد ،للرفاق الذين يستطيعون أن يقرأو بأذهانهم ومشاعرهم لا بأعينهم فقط ؛لأنها رواية لا تُقرأ مرةً واحدة فحسب بل اثنين وثلاث وأربع  . 

 

 

انتهى.

تعليقات

المشاركات الشائعة