تأملات مع كتاب أبي الذي أكره


عدت مرة أخرى مع جانب جديد يخوض ويتأمل في المرحلة الأولى من حياتنا والأساس المتين الذي بإتقانه تستقيم حياة المرء و بفساده لا حياة تُذكر ،إنما دوامة ضخمة من الألم تُلِّم به ، و هنا يعود الكاتب إلى الصدمات والإساءات التي يتعرض لها الطفل من خلال الأبوين في محاولات منه بأن يقدم صورة موضوعية  عن كلا الجانبين دون أن يقلل من حدة و معاناة الإساءة .  
يسافر بنا الكتاب في أربع مراحل بدءًا من السجن و وصولًا إلى التعافي ومراحله  ،في هذه المراجعة سوف استعرض أهم الأفكار في كل مرحلة ..

١- السجن 
في المرحلة الأولى من الكتاب ،قدّم لنا الكاتب تسع زنزانات تقبع بداخلها تجارب وقصص أشخاص تعرضوا إلى أنواع مختلفة من الإساءات ، ليُمهد لنا الآثار المترتبة على كلًا من المسيء والمسيء إليه ، ومن تلك الجمل التي كان وقعها شديد على قلبي كان يقول أحدهم : " سرق مني أبي الحق في التساؤل ، والحق في الشك ، والحق في الحيرة ، والحق في التوهة ! .. 
فماذا أفعل في توهتي و حيرتي وشكوكي ، وأين أذهب بها إن كان الرب يضيق بالمتشككين "

وهكذا مررت من زنزانة إلى أخرى و قلبي يقطر وجعًا قد تكون الإساءة خلق الخوف بلا مبرر أو الشعور بالذنب وبثقل الوجود و في أحيان أخرى تكون الإساءة بغياب أحد الوالدين وفي غالب الأيام تنشأ الإساءة عن طريق المقارنات و خلق شعور كبير بالنقص وعدم الكفاية و الكثير من الإساءات المختلفة التي يعتبرها الوالدين أساليب فعّالة وممتازة للتربية ولكنها في الحقيقة ليست سوى آلامٌ متتالية و جروحٌ لا تبرئ بل تكبر معنا وتتأصل بدواخلنا حتى يصعب التعامل معها أو تغييرها ..

٢- التكوين 
في هذا الفصل تحدث الكاتب عن أنواع وأشكال الإساءات 
أ- الاساءة النفسية مثل : المقارنات - التهديد بالطرد - الإهمال 
ب- الاساءة الروحية عبر فرض الشعائر الدينية مثل : التهديد بالجحيم - ربط الغضب الأبوي بالغضب الرباني - رواية قصص القبر والعذاب الاخروي في سن مبكر 
ج- الاساءة الجنسية مثل :التحرش بالجسد أو اللفظ - ردود الفعل المتخاذلة بعد رواية الابناء لقصص تعرضهم للتحرش 

ويُفصّل الكاتب أكثر في تكوين الإساءة ويقول بأن كل اساءة ترتكز على أربعة أبعاد هي : جرح الهجر - الخوف - الخزي -الاستياء .

يعلمنا بأن الإساءة تقوم بتجميد مراحل النمو النفسية وتحرمنا من تكوين أدواتنا الخاصة لمواجهة العالم ، لذا نخرج شاعرين بالتهديد بكلا نوعيه تهديد الوجود الأول وتهديد هجر البيئة الحاضنة …
كما أنه تحدث بشكل أكثر تفصيلًا عن السلطة الغير مرئية التي تحفز الطفل على خلق ذات مزيفة و مختلفة تمامًا عن ذاته الحقيقة ليستطيع مواكبة المعايير المثالية التي وضعها والديه له ، فأصبح دور هذه الذات المزيفة حماية الذات الحقيقة من الشعور بالتهديد وبالتالي يصبح هناك خوف ملازم للاتساق مع الذات وكأنه إذا تخلّى عن هذا الزيف سيخسر المعركة ويتعرض للعديد من سهام النقد والرفض والتهديد بالفناء.
ومما ينبغي الإشارة إليه هو مدى تأثير جرح الهجر على الطفل لأنه في تلك الحالة سيتعلم بأنه لا يحق له أن يثور ولا أن يغضب لأنه تعرض للنسيان والفقد فقام بكبت ومواراة هذا الاستياء الناتج عن إساءة الهجر ولم يتيح للغضب أن يأخذ وقته الطبيعي ومساحته لينتهي وهكذا يتنكر هذا الغضب المكبوت على عدة هيئات وينتج لنا شخص ناقم وحقود وعصبي متأهب للشعور بالغضب في أقرب و أتفه فرصة .
و أخيرًا يقول الكاتب "كلما كانت الصدمات مبكرة كانت تلك النتائج أكثر تجذُّرًا ، و كلما كانت الإساءات من الإقربين كلما تأصَّلت تلك النتائج في التكوين ، وكلما ساهمت بشكل أكبر في البناء النفسي لأصحابها .

٣- الإساءات واضطرابات العلاقات 
في هذا الجزء يشرح الكاتب طبيعة العلاقة العاطفية الأولى في حياة الطفل وهي علاقته بوالديه لأن من خلال جودة هذه العلاقة سنستطيع أن نكتشف الثغرات الكبيرة التي تواجه الطفل حينما يكبر ويبدأ بتكوين علاقاته الخاصة وفي فترة الطفولة تتكون المفاهيم الأولية لدى الطفل  للطبيعة البشرية من خلال المحيط والبيئة التي يعيش فيها فيتعلم معنى الذكورية وقيمة الرجولة من خلال الأب ، ويتعلم المعنى الحقيقي الأولي للأمان والأمل و الحب من خلال أول امرأة في حياته وهي الأم ، ومن هنا تقع المسؤولية على الوالدين في تكوين المعنى الصحيح والسليم من الصدمات المؤذية للطفل ،وهناك نوعان من هذه الصدمات :الغياب والخذلان - الايذاء والاساءة  ..
ويستمر الكاتب في تفصيل أنواع آثار الاساءات التي تنمو معنا وتكبر وتؤثر على علاقاتنا وشخصياتنا ومنها : فوبيا الحميمية وهي خوف القرب من الآخر - و البحث عن الحب الخشن والمسيء التي نتج عن تصورها للعلاقات المشروطة اعطاء الحب مقابل الاساءة - النرجسية و نقيضها - ممارسة الألاعيب في العلاقات كالتهديد بالرحيل أو الإرضائية المفرطة - التسرع في الحكم على الآخرين المرتبط بشكل خفي بالشعور بالذنب وجلد الذات و الكثير من الاضطرابات طويلة المدى ..

٤- التعافي 
في النهاية الكاتب يترك لنا الخيار في مواصلة هذه الرحلة أم البقاء في نفس نقطة الألم الدفينة للأبد .. ولكنه لا يتركنا دون تعليمات بل يُمسك بأيدينا نحو الخروج من الزنزانة وتحرير أنفسنا من كل تلك العُقد التي كبرت معنا ،يكتب لنا بتفصيل كبير عن مرحلة تلو الأخرى في طريق التعافي من الاضطرابات ،ويشجع الجميع للتوجه نحو المحطة الأخيرة للوصول إلى الوجهة المنتظرة ..
البوح ورواية القصة يساعدان في قطع نصف مرحلة التعافي لذلك أرجو أن نغوص إلى أعماقنا المظلمة ونوقد مشعل الضوء في الأقبية المهجورة ونواجه تلك البقعة التي حدث فيها الانتهاك ونحرر ذواتنا المتجمدة ونستعيد اتزاننا و سلامنا الداخلي  
 
مراحل التعافي من الإساءة 
  1. مرحلة الإنكار ويسهب الكاتب في هذه المرحلة في أشكال الانكار وصوره وكيفية التعامل معه ويبين كيفية التعافي في كل شكل من أشكاله 
  2. مرحلة الغضب عندما تزول حجب الإنكار تصبح الاساءة واضحة ، وهنا يأتي دور الطفل الغاضب بداخلنا لنعطيه المساحة الكافية ولنفهم كل تلك الاسباب التي ساعدت في تكوينه ونحتضنه ونعتذر له نيابة عن كل إساءة صدرت من أي شخص كان ، وهنا ننوه أن مرحلة التعافي من الغضب الدفين لا تُحفز وتشجع الشخص على عقوق والديه أو شي من هذا القبيل بل تقصد بوضوح تام أن يتصالح المرء مع غضبه بالطريقة التي يراها الأنسب له ، الأهم في هذه المرحلة هو أن نتشجع و نبدأ بتغيير تلك الصورة السيئة عن أنفسنا ونتوقف عن الخوف من ذواتنا و الاستسلام للماضي دون المحاولة .
  3. وضع الحدود واستعادة الذات التعافي عملية عفوية لا يمكننا الإسراع منها سوى ببعض القبول لما هو قائم ٌ فعليًا والتصالح مع ما حدث ،لنستعيد ذواتنا يجب علينا التركيز على الحل لا على المشكلة و أن نتحمل مسؤولية تعافينا لا أن نكتفي بإلقاء المسؤولية على من ساهموا في تكوينه .
  4. التجاوز ومن آخر مرحلة تبدأ محطة انطلاق جديدة لنا لنضع إطار جديد لقصتنا وغلق لملفنا يسمى (إعادة تأطير الإساءة)

وأخيرًا الكتاب أحدث بداخلي فوضى عارمة و في نفس الوقت كان بمثابة خريطة للوصول إلى ذاتي الحقيقية ، الكثير من الذكريات و الاوجاع المنسية ظهرت ولكن هذه المرة كنت مستعدة لمواجهتها بشجاعة .. إنني لا ألوم أي جانب ولكنني أحزن بشدة لأننا نتوارث هذه الاساءات دون وعي منا و نُرّبي أجيالًا عديدة ونضربها بسوط الاساءة دون أن نعلم أين الخطأ ، والآن أشعر بأن الفرصة تعاود المجيء إلي لأكسر سلسلة هذه الاساءات ،لأنمي عقلي وروحي بالوعي ، المسؤولية كبيرة جدًا وصعبة على عاتق الوالدين ولكن في عصرنا هذا استطعنا أن نجد القشة التي  نتمسك بها لننجو نحن ومن نحب ، ما زال هنالك متسع ورحابة لنتقبل الماضي وجروحه ونمضي قدمًا .. أنصح الجميع بقراءته وعزائي الشديد لمن أعرض عن قراءته . 

تعليقات

المشاركات الشائعة