(جريمة في سبيل الإنسانية) الجريمة والعقاب ديستويفسكي






أعود مرة أخرى بكامل شعوري ، مندفعة نحو ما خلّده العبقري ديستويفسكي من تحليلات معقدة ومضطربة وغير منطقية في النفس الإنسانية ، في حبكة استلهمها من واقعه حينما حُكم عليه بالإعدام وفي تلك الخطوة الأخيرة نحو تنفيذ الحكم أتاه الأمر بالعفو ،حادثة كهذه كانت ستثير مشاعر الكثير فما الذي نتوقعه عندما يعيشها كاتب عظيم مثل فيودور ديستويفسكي الذي استطاع أن يجعل القارئ في حالة مرعبة في حين أنه لا يشارك في شيء سوى القراءة !    

 

انتقالية الشعور من البطل إلى القارئ:

 يأخذنا ديستويفسكي معه في رحلة عجيبة جدًا متخمة التفاصيل ،أحداثها لا يمكن التنبؤ بها ،تحمل أبعادًا فلسفية واجتماعية ونفسية في آن واحد عبر ست شخصيات كل واحد منهم يمثل حالة فريدة من نوعها في تلك الحقبة من الزمن حين كانت العادات الاجتماعية والأوامر الدينية وكل ما يمضي في طريقه إلى ماهية الأخلاقيات يتداعى  ،بين ما هو خير وشر ،وعندما نعلم من هو المجرم منذ البداية ، ولا نستطيع إطلاق الأحكام، هي رحلة تجوب بك في منتصف الأشياء لا تهمها البداية ولا تستطيع أن تتصور النهاية ،وهكذا تنتقل إليك كل مشاعر الإنتظار ،تأنيب الضمير،الفقر ،الوحدة ،الجوع ،الخوف ،وحتى اللحظات القصيرة المكللة بالبهجة المؤقتة ،تطلق في النهاية ابتسامة حزينة لأنك مجرد قارئ أمام كل تلك المتناقضات والمشاعر المؤلمة . 

 

هل هناك بشر خارقون فعلًا؟!

السؤال الأول الذي يضل بلا إجابة هو غالبًا السبب الرئيسي في معاناة المجرمين وضحاياهم ، هكذا نبتت الفكرة في رأس بطل الرواية منذ التساؤل الأول الذي كلّفت إجابته ثمنًا غاليا جدًا ،وفي طريقنا للبحث عن هذه الإجابة نصطدم بعدة أسئلة أخرى وأفكارٌ لا متناهية ويتولد لدينا شعور قوي بالنبذ من المجتمع ،وسرعان ما نحمي أنفسنا بأن نثبت للاخرين مدى أهميتنا حتى لو كانت تلك الوسيلة هي القتل ، هكذا كان بطل الرواية يمضي أيامه في بطرسبرغ مكلّلًا بالأفكار الشاذة ،فقد كان مؤمن بأن البشر ينقسمون إلى قسمين بشر خارقون يستطيعون أن يفعلوا كل شيء في سبيل الإنسانية مثلما يظنون حتى وإن كان ذلك سيكلّفهم انفسهم دون أن يشعروا بأدنى عذاب والقسم الآخر هم البشر العاديون والبائسون في كثيرً من الأحيان أولئك الذين يرجون أن تحفّهم الحياة بكل سرورها وبهجتها ،ولكنهم في كل مرة يعودوا خائبين! ولعلّنا عرفنا أي الطريقين اختاره بطل الرواية ..

 

 

 

الحمى والكثير من الهذيان ..

عندما نقرأ رواية الجريمة والعقاب يجعلنا ديستويفسكي مشاركين في هذه الجريمة بكل تفاصيلها لأننا شهدنا منذ البداية كل التخبطات التي أودت بنا إلى فعلة شنيعة جدًا وعندما ننتهي من هذه القصة وعندما ينتهي كل شيء ،نبقى نحن بدورنا عالقون في مسرح الجريمة  لمدة تزيد عن خمسة أعوام  تزورنا ذكريات بشعة في أحلامنا ويأكلنا الخوف وتتهالك أجسادنا من فرط الشعور ! استطاع ديستويفسكي أن يزرع هذه المشاعر كلها في شخصية واحدة فقط حتى لتكاد تشعر بهول تلك الأفكار التي تنهال على رأسه في لحظة واحدة ..

 

الماركسية والدين أيهما كان الأقوى ..

شَّب خلاف بين ديستويفسكي والماركسيين في ماهية الشر و ما الذي كان تدور حوله الجريمة وما الحكمة منها ،من وجهة نظر الماركسيين كانت جريمة القتل جائزة بل ومفيدة لصالح البشرية لأنه بقتله هذا  يقضي على البورجوازية الأوروبية وكل ما تحمله معها من الأعمال الربوية ونراهم يبررون هذا القتل بأنه قضاء على الاستغلال والجشع الطبقي ،وهم بدورهم يعرّفون الشر بأنه شيء غير حقيقي ولا يتمثل سوى بالطبقة التي تمتلك المال ووسائل الإنتاج  ،ولكن ديستويفسكي بعدما خطا هذه الخطوة نحو الأمام و حينما وصف لنا هذا الكم من مشاعر الألم والعذاب النفسي ووجع الضمير عاد بنا خطوة إلى الوراء ليؤكد على تحريم القتل حتى ولو كان لصالح البشرية في الديانة المسيحية ولم يكتفي بهذه الخطوة بل عاد خطوة أخرى إلى الوراء لكي يلتقي البطل بمومس مسيحية ويقرأ معها الكتاب المقدس ويقرر أن يتوب توبة نصوحا ،وهُنا نستطيع أن نشعر بتلك الهالة الدينية العجيبة  التي أضافها ديستويفسكي في نهاية روايته ليعلن بأن الشر حقيقة فردية في قلب كل إنسان وهذا الشر ينعكس تحديدًا في وسائل العنف التي تطبقها الثورة وهذا هو جذر الخلاف بين المسيحية والأخلاق الثورية ..،ولكن لم تكن هذه هي نهاية الشر عند ديستوفسكي بل عاد ليكتب عنه مجددًا ويضع له تفسيرات عديدة في روايات أخرى .

 

 

 

وأخيرًا إن كان هناك رواية تستحق القراءة والتمعن والتحليل فهي الجريمة والعقاب بلا شك ،لأننا حينما نقرأها نشعر بأنها تشاركنا واقعنا وتسلب مننا الحق في إطلاق الأحكام السريعة وتثير في أنفسنا حيرة لا متناهية ،وهي أيضًا تنمّي لدينا ذلك الحس بالمسؤولية نحو مبادئنا ومعتقداتنا وكل ما يمكن للحياة بأن تغيره بداخلنا دون أن نشعر ،في لحظة ما شعرت بأنني خضت جريمة ما لا يهم مدى حجمها ولا عمق أثرها كل ما كنت أفكر فيه هو ما الذي حدث في تلك اللحظة وما الذي تبدّل حينها في نفسي وما الذي دعاني إلى هذا الفعل السيء ،ومن هُنا من هذا الخطأ السيء تحديدًا نستطيع أن نعود إلى أنفسنا بعد الاغتراب الروحي والجسدي الذي ما يلبث يضربنا بسوطه كلما ابتعدنا عن رقابتنا على أنفسنا ،إن كنت قد تعلمت من هذه الرواية شيء فهو بالتأكيد عظم الرقابة الذاتية والمسؤولية التي نحملها على عاتقنا نحو كل ما نقول أو نفعل على هذه الأرض ،أنصح بالرواية لكل من ضاعت به السبل الممكنة في أن يلقى عملًا يستحق القراءة .

 

انتهى

تعليقات

المشاركات الشائعة